كانت مدينة الإسكندرية عند استيلاء العرب عليها قصبة الديار المصرية، والحاجز الثاني للإمبراطورية الرومانية الشرقية بعد القسطنطينية، وأول مدينة تجارية في العالم. وقد أيقن الروم البيزنطيون أن سقوط هذه المدينة في أيدي العرب يؤدي حتماً إلى زوال سلطانهم من مصر.
تمكن عمرو بن العاص من فتح مصر فسقطت الإسكندرية على يديه بعدما عهد لعبادة بن الصامت قيادة الجيش وولاّه قتال الروم. والسؤال هو: كيف كانت معاملة العرب للمصريين؟ لقد برز مشهد تاريخي خلال تلك الحقبة يرمز إلى موقف حضاري عبَّر عنه قائد الفتح آنذاك عمرو بن العاص عندما خيّر أهل الكنانة بين الإسلام والبقاء على دينهم، فمن أسلم منهم صار له ما للمسلمين من الحقوق وعليه ما عليهم من الواجبات، ومن بقي على دينه فرضت عليه جزية صغيرة، مقدارها ديناران على من بلغ الحلم منهم.
إضافة إلى ذلك رفع بن العاص الاضطهاد عنهم وأمر بعدم تحميلهم ما لا يطيقون، والأهم من ذلك تلك السياسة الحكيمة التي اعتمدها عندما آثر إطلاق الحرية الدينية للأقباط، فبعد استيلائه على حصن نابليون، كتب بيده عهداً للأقباط بحماية كنيستهم، الأمر الذي أعطاه شهادة حية على سلوكه الحضاري الذي أكدته قراراته الحكيمة تجاه كل المستجدات التي واكبت أحداث الفتوح، والتي كثيراً ما كانت تحدث بين أبناء الدين الواحد الذي كان سائداً في البلاد التي فتحوها.
وجاءت أحداث فتوحات المسلمين لتعطي الدليل على السلوك الحضاري الذي التزم به فاتح مصر عمرو بن العاص عندما وجد نفسه عشية دخوله مدينة الإسكندرية أمام مشكلة تهدد أبناء الدين المسيحي في مصر، ففي فتح مصر برز مشهد تاريخي، فعندما دخل سيدنا عمرو بن العاص الإسكندرية ووجد فيها الأقباط والروم على خلاف بعد اضطهاد الروم الأقباط ونفي بطريقهم بنيامين وأُبعد من كرسيه مدة تزيد على عشر سنوات، لم يحاول الفاتح الإسلامي الإفادة من هذا الخلاف لتعميق الشرخ بين الكنيسة القبطية والكنيسة الأرثوذكسية، ولم يعمل على تطبيق المثل القائل «فرّق تسد»، بل حاول الوقوف على أسباب النزاع والعمل على حله وإعطاء المظلوم حقه ودفع الظالم للكف عن التمادي في ظلمه.
كان في إمكان القائد المسلم أن يستفيد من هذا الخلاف ويزيد من حدة الانقسام بين الروم والأقباط، لكنه أبى ذلك وأطلق الحرية الدينية للأقباط وكتب بخط يده عهداً لهم بحماية كنيستهم، ولعْن كل من يجرؤ من المسلمين على إخراجهم منها، كما كتب أماناً للبطريق بنيامين، ورده إلى كرسيه بعدما تغيب عنه أكثر من عشر سنوات، كما أمر باستقبال بنيامين عندما قدم الإسكندرية أحسن استقبال، وألقى بنيامين على مسامعه خطاباً ضمّنه الاقتراحات التي رآها ضرورية لحفظ كيان الكنيسة، فتقبلها القائد الإسلامي ومنحه السلطة التامة على الأقباط والسلطان المطلق لإدارة شؤون الكنيسة.
ولاحظ المستشرق بتلر، أن عودة بنيامين إلى عرش الكنيسة كفاها شر الوقوع في أزمة خطيرة، وللتدليل على ذلك نشير إلى الخطبة البليغة التي ألقاها باسيلي أسقف نقيوس في دير مقاريوس والتي تعتبر خير دليل على أن الأقباط أصبحوا بعد الفتح الإسلامي في غبطة وسرور لتخلصهم من عسف الروم، يدل على ذلك رد بنيامين على باسيل بقوله: «لقد وجدت في مدينة الإسكندرية زمن النجاة والطمأنينة اللتين كنت أنشدهما بعد الاضطهادات والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمة المارقون». فمن هذه الكلمات التي فاه بها البطريق يتجلى مدى الطمأنينة التي شعر بها المصريون في عهد عمرو بن العاص رضي الله عنه.
ومما يؤيد هذا القول وصف ساويروس القوم بأنهم «في اليوم الذي زار فيه دير مقاريوس كالثيرة إذا أطلقت من قيودها».
ومما يدل أيضاً على حسن سياسة العرب المسلمين في مصر، انهم لم يفرقوا بين الملكانية واليعاقبة. فالمصريون كانوا متساوين أمام القانون وأظلهم الإسلام والمسلمون بعدلهم، وحموهم بحسن تدبيرهم.
ويقول السير توماس أرنولد صاحب كتاب «الدعوة إلى الإسلام»: إن «النجاح السريع الذي أحرزه العرب (حسب وصفه) يعود قبل كل شيء إلى ما لقوه من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي لما عرف به من الإدارة الظالمة، وما أضمروه من حقد مرير على علماء اللاهوت. فاليعاقبة الذين كانوا يشكلون السواد الأعظم من السكان المسيحيين، عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي التابعين للبلاط».
وهذا الموقف الحضاري الذي اتخذه عمرو بن العاص في مسألة الخلاف بين الكنيستين آنذاك والذي رسم رؤية إنسانية مبنية على قاعدة احترام حقوق أقباط مصر من موضوع كرسيهم الكنسي، مهد لتواصل مستقبلي خلال الحقب التاريخية المتلاحقة كما مهد لإيجاد أرضية صالحة لتعايش إنساني يوفر الظروف لحياة بعيدة عن التعصب المقيت ونبذ الآخر كما أنه بين عظمة الإسلام ومدى عدله وإنصافه في معاملة الآخر وإن كان مخالفا في العقيدة والدين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق